كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال رحمه الله في كلامه على قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في رسالته المشهورة إلى أبي موسى: ثم الفهم فيما أدلى إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس بين الأمور عند ذلك، واعرف الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله، وأشبهها بالحق ما نصه:
هذا أحد ما اعتمد عليه القياسيون في الشريعة، قالوا هذا كتاب عمر إلى أبي موسى ولم ينكره أحد من الصحابة، بل كانوا متفقين على القول بالقياس وهو أحد أصول الشريعة، ولا يستغنى عنه فقيه. وقد أرشد الله تعالى عباده إليه في غير موضع من كتابه، فقاس النشأة الثانية على النشأة الأولى في الإمكان، وجعل النشأة الأولى أصلًا، والثانية فرعا عليها، وقاس حياة الأموات على حياة الأرض بعد موتها بالنبات، وقاس الخلق الجديد الذي أنكره أعداؤه على خلق السموات والأرض، وجعله من قياس الأولى، كما جعل قياس النشأة الثانية على الأولى من قياس الأولى، وقاس الحياة بعد الموت على اليقظة بعد النوم. وضرب الأمثال وصرفها في الأنواع المختلفة، وكلها أقيسة عقلية ينبه بها عباده على أن حكم الشيء حكم مثله، فإن الأمثال كلها قياسات يعلم منها حكم الممثل من الممثل به. وقد اشتمل القرآن على بضعة وأربعين مثلًا تتضمن تشبيه الشيء بنظيره والتسوية بينهما في الحكم، وقال تعالى: {وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وما يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون} [العنكبوت: 43] بالقياس في ضرب الأمثال من خاصة العقل، وقد ركز الله في فطر الناس وعقولهم التسوية بين المتماثلين وإنكار التفريق بينهما، والفرق بين المختلفين وإنكار الجمع بينهما قالوا: ومدار الاستدلال جمعية على التسوية بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين: فإنه إما استدلال بمعين على معين، أو بمعين على عام، أو بعام على معين، أو بعام على عام. فهذه الأربعة هي مجامع ضروب الاستدلال. فالاستدلال بالمعين على المعين هو الاستدلال بالملزوم على لازمه، بكل ملزوم دليل على لازمه، فإن كان التلازم من الجانبين كان كل منهما دليلًا على الآِخر ومدلولًا له. وهذا النوع ثلاثة أقسام: أحدها الاستدلال بالمؤثر على الأثر، والثاني الاستدلال بالأثر على المؤثر. والثالث الاستدلال بأحد الأثرين على الآخر.
فالأول كالاستدلال بالنار على الحريق. والثاني كالاستدلال بالحريق على النار. والثالث كالاستدلال بالحريق على الدخان. ومدار ذلك كله على التلازم: ولتسوية بين المماثلين هو الاستدلال بثبوت أحد الأثرين على الآخر وقياس الفرق هو استدلال بانتفاء أحد الأثرين على انتفاء الآخر، أو بانتفاء اللازم على انتفاء ملزومه: فلو جاز التفريق بين المتماثلين لانسدت طريق الاستدلال، وغلقت أبوابه.
قالوا: وأما الاستدلال بالمعين على العام فلا يتم إلا بالتسوية بين المتماثلين، إذ لو جاز الفرق لما كان هذا المعين دليلًا على الأمر العام المشترك بين الأفراد.
ومن هذا أدلة القرآن بتعذيب المعينين الذين عذبهم على تكذيب رسله وعصيان أمره، على أن هذا الحكم عام شامل على من سكل سبيلهم، واتصف بصفتهم، وهو سبحانه قد نبه عباده على نفس هذا الاستدلال، وتعدية هذا الخصوص إلى العموم، كما قال تعالى عقب إخباره عن عقوبات الأمم المكذبة لرسلهم وما حل بهم: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ فِي الزبر} [القمر: 43] فهذا محض تعدية الحكم إلى من عدا المذكورين بعموم العلة، وإلا فلو لم يكن حكم الشيء حكم مثله لما لزمت التعدية. ولا تمت الحجة. ومثل هذا قوله تعالى عقيب إخباره عن عقوبة قوم هود حين رأوا العارض في السماء: {قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] فقال تعالى: {بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِهَا فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين} [الأحقاف: 24- 25] ثم قال: {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ الله وَحَاقَ بِه مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26] فتأمل قوله: {وَلَقَدْ مَكَّنَاهُمْ فِيمَا إِن مَّكَّنَّاكُمْ فِيهِ} تجد المعنى: أن حكمكم كحكمهم، وأنا إذا كنا قد أهلَكِناهم بمعصية رسولنا ولم يدفع عنهم ما مكنوا فيه من أسباب العيش. فأنتم كذلك تسوية بين المتماثلين. وأن هذا محض عدل الله بين عباده. ومن ذلك قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10] فأخبر أن حكم الشيء حكم مثله. وكذلك كل موضع أمر الله سبحانه فيه بالسير في الأرض سواء كان السير الحسي على الأقدام والدواب، أو السير المعنوي بالتفكير والاعتبار، أو كان اللفظ يعمهما وهو اصواب، فإنه يدل على الاعتبار والحذر أن يحل بالمخاطبين ما حل بأولئك ولهذا أمر سبحانه أولي الأبصار باعتبار بما حل بالمكذبين، ولولا أن حكم النظير حكم نظيره حتى تعبر العقول منه إليه لما حصل الاعتبار، وقد نفى الله سبحانه عن حكمه وحكمته التسوية بين المختلفين في الحكم، فقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم: 35- 36] وأخبر أن هذا حكم باطل في الفطر والعقول، لا تليق نسبته إليه سبحانه. وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَواء مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 12]، وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} [ص: 28] أفلا تراه كيف ذكر العقول، ونبه الفطر بما أودع فيها من إعطاء النظير حكم نظيره، وعدم التسوية بني الشيء ومخالفه في الحكم. وكل هذا من الميزان الذي أنزله الله مع كتابه، وجعله قرينه ووزيره. فقال تعالى: {الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق والميزان} [الشورى: 17]، وقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط} [الحديد: 25]، وقال تعالى: {الرحمن عَلَّمَ القرآن} [الرحمن: 1- 2] فهذا الكتاب ثم قال: {والسماء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان} [الرحمن: 7] والميزان يراد به العدل، والآلة التي يعرف بها العدل وما يضاده. والقياس الصحيح هو الميزان، فالأولى تسميته بالاسم الذي سماه الله به. فإنه يدل على العدل، وهو اسم مدح واجب على كل واحد في كل حال بحسب الإمكان. بخلاف اسم القياس فإنه ينقسم إلى حق وباطل، وممدوح ومذموم، ولهذا لم يجئ في القرآن مدحه ولا ذمه، ولا الأمر به ولا النهي عنه، فإنه مورد تقسيم إلى صحيح وفاسد. فالصحيح هو الميزان الذي أنزله الله مع كتابه، والفاسد ما يضاده كقياس الذين قاسوا البيع على الربا بجامع ما يشتركان فيه من التراضي بالمعاوضة المالية، وقاس الذين قاسوا الميتة على المذكى في جواز أكلها بجامع ما يشتركان فيه من إزهاق الروح، هذا بسبب من الآدميين، وهذا بفعل الله. ولهذا تجد في كلام السلف ذم القياس، وأنه ليس من الدين، وتجد في كلامهم استعماله والاستدلال به، وهذا حق وهذا حق. كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
والأقيسة في الاستدلال ثلاثة: قياس علة، وقياس دلالة، وقياس شبه، وقد وردت كلها في القرآن.
فأما قياس العلة فقد جاء في كتاب الله عز وجل في مواضع. منها قوله تعالى، {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] فأخبر تعالى أن عيسى نظير آدم في التكوين، بجامع ما يشتركان فيه من المعنى الذي تعلق به وجود سائر المخلوقات، وهو مجيئها طوعًا لمشيئته وتكوينه، فكيف يستنكر وجود عيسى من غير أب من يقر بوجود آدم من غير أب ولا أم، ووجود حواء من غير أم. فآدم وعيسى نظيران يجمعهما الذي يصح تعليق الإيجاد والخلق به.
ومنها قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} [آل عمران: 137] أي قد كان من قبلكم أمم أمثالكم، فانظروا إلى عواقبهم السيئة، واعلموا أن سبب ذلك ما كان من تكذيبهم بآيات الله ورسله، وهم الأصل وأنتم الفرع، والعلة الجامعة التكذيب، والحكم الهلاك.
ومنها قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكِنا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السماء عَلَيْهِم مَّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكِناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6] فذكر سبحانه إهلاك من قبلنا من القرون، وبين أن ذلك كان لمعنى القياس وهو ذنوبهم، فهم الأصل ونحن الفرع، والذنوب العلة الجامعة، والحكم الهلاك. فهذا محض قياس العلة، وقد أكده سبحانه بضرب من الأولى، وهو أن من قبلنا كانوا أقوى منا فلم تدفع عنهم قوتهم وشدتهم ما حل بهم.
ومنه قوله تعالى: {كالذين مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلاَدًا فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} [التوبة: 69] وقد اختلف في محل هذا الكاف وما يتعلق به، فقيل: هو رفع خبر مبتدأ محذوف، أي أنتم كالذين من قبلكم. وقيل نصب بفعل محذوف تقديره: فعلتم كفعل الذين من قبلكم. والتشبيه على هذين القولين في أعمال الذين من قبل، وقيل التشبيه في العذاب. ثم قيل: العامل محذوف. أي لعنهم وعذبهم كما لعن ابن من قبلهم. وقيل بل العامل ما تقدم. أي وعد الله المنافقين كوعد الذين من قبلكم، ولعنهم كلعنهم، ولهم عذاب مقيم كالعذاب الذي لهم.
والمقصود أنه سبحانه ألحقهم بهم في الوعيد، وسوى بينهم فيه كما تساووا في الأعمال، وكونهم كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالًا وأولادًا فرق غير مؤثر، فعلق الحكم بالوصف الجامع المؤثر، وألغى الوصف الفارق، ثم نبه على أن مشاركتهم في الأعمال اقتضت مشاركتهم في الجزاء فقال: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا} فهذه هي العلة المؤثرة والوصف الجامع، وقوله: {أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} هو الحكم، والذين من قبلهم الأصل، والمخاطبون الفرع.
قال عبد الرزاق في تفسيره: أنا معمر عن الحسن في قوله: {فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ} قال بدينهم. ويروى عن أبي هريرة.
وقال ابن عباس: استمتعوا بنصيبهم من الآخرة في الدنيا. وقال آخرون: بنصيبهم من الدنيا. وحقيقة الأمر: أن الخلاق هو النصيب والحظ، كأنه الذي خلق للإنسان وقدر له، كما يقال: قسمه الذي قسم له، ونصيبه الذي نصب له أي أثبت. وقطه الذي قط له أي قطع، ومنه قوله تعالى: {وما لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} [البقرة: 200] وقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّما يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا من لاَ خَلاَق لَهُ في الآخِرَة» والآية تتناول ما ذكره السلف كله، فإنه سبحانه قال: {أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [الروم: 9] فبتلك القوة التي كانت فيهم كانوا يستطيعون أن يعملوا للدنيا والآخرة، وكذلك الأموال والأولاد، وتلك القوة والأموال والأولاد هي الخلاق، فاستمتعوا بقوتهم وأموالهم في الدنيا، ونفس الأعمال التي عملوها بهذه القوة من الخلاق الذي استمتعوا به. ولو أرادوا بذلك الله والدار الآخرة لكان لهم خلاق في الآخرة، فتمتعهم بها أخذ حظوظهم العاجل، وهذا حال من لم يعمل إلا لدنياه سواء كان عمله من جنس العبادات أو غيرها. ثم ذكر سبحانه حال الفروع فقال: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ} [التوبة: 69] فدل هذا على أن حكمهم حكمهم، وأنهم ينالهم ما ينالهم، لأن حكم النظير حكم نظيره. ثم قال: {وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا} [التوبة: 69]. فقيل الذي صفة لمصدر محذوف، أي كالمخوض الذي خاضوا وقيل: لموصوف محذوف.
أي كخوض القوم الذي خاضوا وهو فاعل الخوض.
وقيل: الذي مصدرية كـ: ما أي كخوضهم. وقيل: هي موضع الذين. والمقصود أنه سبحانه جمع بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض بالباطل. لأن فساد الدين إما أن يقع بالاعتقاد بالباطل والتكلم به وهو الخوض، أو يقع بالعمل، بخلاف الحق والصواب وهو الاستمتاع بالخلاق، فالأول البدع. والثاني اتباع الهوى، وهذان هما أصل كل شر وفتنة وبلاء، وبهما كذبت الرسل وعصى الرب، ودخلت النار وحلت العقوبات.
فالأول من جهة الشبهات، والثاني من جهة الشهوات، ولهذا كان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى فتنة هواهـ. وصابح دنيا أعجبته دنياه! وكانوا يقولون: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، فهذا يشبه المغضوب عليهم الذين يعملون الحق ويعملون بخلافه، وهذا يشبه الضالين الذين يعملون بغير علم.
وفي صفة الإمام رحمه الله عن الدنيا ما كان أصبره، وبالماضين ما كان أشبهه! أتته البدع فنفاها، والدنيا فأباها. وهذه حال أئمة المتقين، الذين وصفهم الله تعالى في كتابه بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: 24] فبالصبر تترك الشهوات، وباليقين تدفع الشبهات، كما قال تعالى: {وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 3]، وقوله تعالى: {واذكر عِبَادَنَآ إبراهيم وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأيدي والأبصار} [ص: 45].
وفي بعض المراسيل: «إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات». فقوله تعالى: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ} [التوبة: 69] إشارة إلى اتباع الشهوات، وهوداء العصاة. وقوله: {وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا} [التوبة: 69] إشارة إلى الشبهات، وهو داء المبتدعة وأهل الأهواء والخصومات، وكثيرًا ما يجتمعان. فقل من تجده فاسد الاعتقاد إلا وفساد اعتقاده يظهر في عمله. والمقصود أن الله أخبر أن في هذه الأمة من يستمتع بخلاقه كما استمتع الذين من قبله بخلاقهم، ويخوض كخوضهم، وأن لهم من الذم والوعيد كما للذين من قبلهم، ثم حضهم على القياس والاعتبار بمن قبلهم فقال: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إبراهيم وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ والمؤتفكات أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ ولَكِن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة: 70] فتأمل صحة هذا القياس وإفادته لما علق عليه من الحكم، وأن الأصل والفرع قد تساويا في المعنى الذي علق به العقاب وأكده كما تقدم بضرب من الأولى وهو شدة القوة وكثرة الأموال والأولاد، فإذا لم يتعذر على الله عقاب الأقوى منهم بذنبه فكيف يتعذر عليه عقاب من هو دونه. ومنه قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الغني ذُو الرحمة إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} [الأنعام: 133]. فهذا قياس جلي، يقول سبحانه: إن شئت أذهبتكم واستخلفت غيركم، كما أذهبت من قبلكم واستخلفتكم، بذكر أركان القياس ألأربعة: علة الحكم وهي عموم مشيئته وكمالها، والحكم وهو إذهابه إياهم وإتيانه بغيرهم، والأصل وهو ما كان من قبل والفرع وهم المخاطبون، ومنه قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين} [يونس: 39] فأخبر أن من قبل المكذبين أصل يعتبر به، والفرع نفوسهم. فإذا ساووهم في المعنى ساووهم في العاقبة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فعصى فِرْعَوْنُ الرسول فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 15- 16] فأخبر سبحانه أنه أرسل موسى إلى فرعون، وأن فرعون عصى رسوله فأخذه أخذًا وبيلا. فهكذا من عصى منكم محمدًا صلى الله عليه وسلم. وهذا في القرآن كثير جدًّا فقد فتح لك بابه.
فصل:
وأما قياس الدلالة فهو الجمع بين الأصل والفرع، بدليل العلة وملزومها، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء اهتزت وَرَبَتْ إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39] فدل سبحانه عباده بما أراهم من الإحياء الذي تحققوه وشاهدوه، على الإحياء الذي استبعدوه، وذلك قياس إحياء على إحياء، واعتبار الشيء فنظيره، والعلة الموجبة هي عموم قدرته سبحانه وكمال حكمته، وإحياء الأرض دليل العلة، ومنه قوله تعالى: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَيُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19].